https://www.googletagmanager.com/ns.html?id=GTM-KQN7VXH
مقالات

«مشروعية القوة»

بقلم – أ.د. إسماعيل علي سعد: أستاذ علم الاجتماع السياسي ـ كلية الآداب – جامعة الإسكندرية.

إن القوة كما يتضح من دراسة التاريخ الإنساني، تعطي في جميع المجتمعات الإنسانية ـ وحتى في مجتمع الحيوان ـ لمن يمتلكها مكاسبًا وامتيازات: فهي «القوة» تعطي الشرف والهيبة واللذة والفوائد المادية والمعنوية. ولهذا تصبح القوة موضوعًا للقتال والصراع، فهي تؤدي إلى المواجهة بين من يتصارعون من أجل منصب رسمي، أو مكسب شخصي، فضلا عن الصراع بين ممتلكي القوة على المستوى الدولي، وتلك الدول الأقل قوة والتي لا تملك إلا الخضوع والإذعان.

والقوة تُمارس دائمًا لصالح جماعة أو طبقة أو دولة أو حتى فرد، وفي وقتنا الراهن تتبدى هيمنة الدولة القوية في محاوله لصياغة العلاقات الدولية وفقا لـ«مقتضيات» مصلحتها. وهكذا الحال منذ بداية تاريخ الإنسان وعبر الحضارات المختلفة التي مر بها بدءً من فرعون مصر وانتهاء بسيدة الدول الآن. فالعدل وحقوق الإنسان هي ما تراه أمريكا ليس بمستغرب على سلوك الأقوياء فما يرونه هو العدل.

ولقد ذهب فيلسوف اليونان – وفلسفة اليونان القديم قد وضعت من قبل أصول التفرقة العنصرية والفاشية عند أفلاطون فيلسوفهم الكبير «ثراسيماخوس» إلى حد تأكيد أن «العدالة» هي مصلحة الأقوى كما أن الفيلسوف «هبز»، قد أكد أن القوة هي أعلى دافع محرك للناس، على المستوى الفردي والجماعي والمجتمعي والدولي.

«القوة» تفرض سيطرتها لزعزعة الاستقرار لـ«خدمتها» تكريس التخلف

وبإلقاء نظرة على واقع المجتمع المعاصر نلاحظ تطابقاً بين تعريف «ثراسيماخوس» وهذا الواقع، ويتجلى لنا ذلك من سياسات الدول القوية سيطرتها على المؤسسات الدولية، ومحاولاتها زعزعة الاستقرار السياسي والاجتماعي بها لتكريس تخلفها، مما يجعلها دائماً تدور في فلكها أو تطلق عليها جنودها الذين يعملون في خدمتها. وعلى هذا فإن «ثراسيماخوس» يعطينا نظرية عامة، أن «العدالة» مصلحة ومنفعة الأقوى في كل مكان.

إن نظرية «ثراسيماخوس» تعبر عما هو كائن بالفعل، لا عما ينبغي أن يكون؛ لأن نظرة مدققة على الواقع الدولي تظهر أن سيطرة الدول الكبرى على المؤسسات والمنظمات الدولية بما أوتيت من مصادر للقوة تمكنها من سن القوانين واتخاذ القرارات التي تكفل مصلحتها وتجعلها مشروعة.   

ولقد وجدَ هذا المبدأ «مشروعية القوة» دعماً وتبريراً من مفكرين كبار لهم مكانتهم في الفكر الغربي والإنساني منذ «أفلاطون» وحتى الآن. فمن أبرز المفكرين الذين نادوا بفكرة مشروعية القوة رجل القانون الفرنسي «جان بودان» وكان يعنى بمشروعية القوة، أنها القوة التي تستطيع أن تستمر أو تدوم، إذ أن سموها واستمرارها يستدل بها «بودان» على أنهما تعملان من اجل الصالح العام.

ويدلل على ذلك بقوله: إن السلطة التي يمارسها الغزاة المنتصرين على المنهزمين لا تستمر لمجرد أنها تعمل من اجل صالحهم، بل لان للغزاة الحق في قتل المنهزمين، ومن ثم يحق لهم أن يحكموا المنهزمين على أساس أنهم يمنحوهم الحياة في مقابل الطاعة والإذعان، وحتى إذا كان المنتصرين معتدون، فان انتصارهم يعطيهم الحق في حكم المغلوبين، وليس ذلك فحسب، بل في تجريدهم من ملكيتهم وحريتهم.

القوة العالمية مصدر إخضاع الشعوب «رهينة» وحرمانها من «لقمة العيش»

ولسنا في حاجة إلى تبيان ذلك المفهوم وانطباقه على ما يحدث في عالمنا الآن من طغيان الدول الكبرى على الدول الأقل قوة، وخاصة القوة العالمية التي أصبحت اليوم من أهم مصادر السيطرة وإخضاع الشعوب لإرادة هذه الدول، بما تملك من مصادر للقوة تستخدمها في الحيلولة دون بلوغ الدول الأخرى لأي مصدر من مصادر القوة، وذلك لتبقى رهينة لها تطوعها، وإن لم تنصاع تلوح لها باستخدام ما لديها من إمكانات لحرمان الشعوب حتى من لقمة العيش.

إن حركة التاريخ منذ فجره وعبر الأزمان والعصور ما هي إلا محاولة من القلة صاحبة القوة للاستمرار في حيازتها – سواء أكانت القلة جماعة في المجتمع أو دولة على المستوى الدولي – ومن ثم تحاول عبر مختلف الحقب ابتكار الوسائل التي تمكن لها من ذلك، سواء أكان بوسائل فكرية نظرية، أو بوسائل مادية تكنولوجية أو مالية، وان لزم الأمر بالوسائل القهرية مدعية شرعية هذا القهر.

وقد يكون ذلك بالترويج لنفسها عن طريق امتلاكها لوسائل الدعاية والتلاعب بالشعارات التي تخدع بها الشعوب في المجتمع الحديث كشعارات حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية وما شابه من شعارات ليس من سبيل إلى تطبيقها في الواقع وهكذا تظل الشعوب متعلقة بالأمل الذي هو مجرد سراب تتوارثه الأجيال.

لقد اكتسب مشهد القوة أبعاد جديدة عند مفكري وصانعي السياسة في القرن الواحد والعشرين للسيطرة على الآخرين. وقد شهدت أصقاع الأرض شخصًا واحدًا يبرز من بين الملايين أو دولة واحدة من بين ما يقرب من مأتي دولة في العالم اليوم تفرض عليه سلطانها وتخضعه لإرادتها بما تمتلك من هيمنة ونفوذ ينبثقان منى قوتها التي تجعلها تضفى طابعًا شرعيًا على إرادتها وتسلطها على غالبية النظم والمؤسسات الدولية.

وعلى أية حال، فالقوة ليست ممارسة لصراع يقوم على أساس تفاوت وتباين المصالح، مما قد يظهر معه من حيث الشكل أن الدولة هي التي تحتكر شرعية القوة. ومن ثم فان الدراسة الشاملة للحق التاريخية المختلفة تنتهي بنا إلى الاعتقاد بأن شرعية القوة تنبثق أساسًا من قدرتها على كونها ـ أي القوة ـ تستطيع أن تقوم بذاتها ولذاتها، بينما السلطة السياسية تحتاج إلى قوة تساندها وتمكن لها لكي تضمن لها الطاعة والإذعان.

وعلى هذا.. فعلاقات القوه ظلت ثابتة عبر الحقب التاريخية العديدة. ولهذا ظلت المجتمعات ومازالت وسوف تظل تحكم بوساطة القوة، وإن ادعت هذه الأخيرة أنها قوة شرعية، فهي صادقة في هذا القول، فلا يتأتى للشرعية أن تقوم بدون حيازتها لـ«كم» من القوة يكافئ قدرتها على دفع الناس أفرادًا أو جماعات أو دول على الطاعة والإذعان. فهل لنا أن نحاول جادين أن نزيد من مصادر قوتنا على مستوى الفرد والجماعة والدولة لإحياء ذكرى ماضينا المجيد؛ وذلك لنحقق ما يسمونه بـ«الديمقراطية» تلك الفتاه الجميلة ممشوقة القوام التي عشقها وتغني بجمالها الحكام منذ فجر التاريخ إلا أيًا منهم لم يعقد قرانه عليها حتى اليوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى